فصل: تفسير الآيات رقم (42- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 102‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

ولما كان أمره مستغرباً في نفسه وفي الاطلاع عليه لا سيما عند القرب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي أمره كما ذكرنا لكم على سبيل الاقتصار ‏{‏وقد أحطنا‏}‏ بما لنا من العظمة، ‏{‏بما لديه‏}‏ أي كله من الأمور التي هي أغرب المستغرب ‏{‏خبراً *‏}‏ أي من جهة بواطن أموره فضلاً عن ظواهرها، فلا يستغرب إخبارنا عن ذلك ولا عن أمر أصحاب الكهف، ولا يظن أن تفصيل أمر الروح خفي عنا، لأنا مطلعون على خفايا الأمور وظواهرها، شواهدها وغوائبها، وكيف لا ونحن أوجدناها ولكنا لا نذكر من ذلك إلا ما نريد على ما تدعو إليه الحكمة، فلو شئنا لبسطنا هذه القصة وقصة أهل الكهف وفصلنا أمر الروح تفصيلاً يعجز عن حفظه الألباء ‏{‏ثم أتبع‏}‏ في إرادته ناحية السد مخرج يأجوج ومأجوج ‏{‏سبباً *‏}‏ من جهة الشمال، واستمر أخذاً فيه ‏{‏حتى إذا بلغ‏}‏ في مسيره ذلك ‏{‏بين السدين‏}‏ أي الجبلين المانعين من وراءهما من الوصول منهما إلى من أمامهما وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية وآذربيجان، أملسان يزلق عليهما كل شيء؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بفتح السين، والباقون بضمهما، فقيل‏:‏ هما بمعنى واحد، وقيل‏:‏ المضموم من فعل الله، والمفتوح من فعل الناس‏.‏ ‏{‏وجد من دونهما‏}‏ أي بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين ‏{‏قوماً‏}‏ أي أقوياء لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد، فهم لذلك ‏{‏لا يكادون يفقهون قولاً *‏}‏ أي لا يقربون من أن يفهموه ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم، ودل وصفهم بما يأتي على أنهم يفهمون فهماً ما بعد بُعد ومحاولة طويلة، لعدم ماهر بلسانهم ممن مع ذي القرنين، وعدم ماهر منهم بلسان أحد ممن معه، وهذا يدل على أن بينهم وبين بقية سكان الأرض غير يأجوج ومأجوج براري شاسعة، وفيافي واسعة، منعت من اختلاطهم بهم، وأن تطيعهم بلسان غيرهم بعيد جداً لقلة حفظهم لخروج بلادهم عن حد الاعتدال، أو لغير ذلك، ويلزم من ذلك أنهم لا يكادون يفهمون غيرهم شيئاً من كلامهم، وذلك معنى قراءة حمزة والكسائي بضم التحتانية وكسر القاف، ودل على أن عدم فهمهم وأفهامهم مقيد بما مضى قوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي مترجموهم أو جيرانهم- الذين من دونهم- كما في مصحف ابن مسعود ممن يعرف بعض كلامهم، أو بالإشارة كما يخاطب إليكم‏:‏ ‏{‏يا ذا القرنين‏}‏ مسنا الضر ‏{‏إن يأجوج ومأجوج‏}‏ وهما قبيلتان من الناس من أولاد يافث، لا يطاق أمرهم، ولا يطفأ جمرهم، وقد ثبت في الصحيح في حديث بعث النار أنهم من ذرية آدم عليه السلام ‏{‏مفسدون في الأرض‏}‏ بأنواع الفساد ‏{‏فهل نجعل لك خرجاً‏}‏ نخرجه لك من أموالنا- هذا على قراءة الجماعة، وزاد حمزة والكسائي ألفاً، فقيل‏:‏ هما بمعنى واحد، وقيل‏:‏ بل الخرج ما تبرعت به، والخراج بالألف ما لزمك‏.‏

‏{‏على أن تجعل‏}‏ في جميع ما ‏{‏بيننا وبينهم‏}‏ من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة ‏{‏سداً *‏}‏ يصل بين هذين الجبلين ‏{‏قال‏}‏ بعفة وديانة وقصد للخير‏:‏ ‏{‏ما مكني‏}‏‏.‏

ولما كان لمكنته حالتان‏:‏ إحداهما ظاهرة، وهي ما شوهد من فعله بعد وقوعه، وباطنة ولا يقع أحد عليها بحدس ولا توهم، لأنها مما لم يؤلف مثله، فلا يقع المتوسم عليه، قرأ ابن كثير بإظهار النون في ‏{‏مكنني‏}‏ وغيره بالإدغام، إشارة إليهما‏.‏ ولما كان النظر إلى ما يقع المكنة فيه أكثر، قدم ضميره فقال‏:‏ ‏{‏فيه ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بما ترون من الأموال والرجال، والفهم في إتقان الأمور، والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق ‏{‏خير‏}‏ أي من خرجكم الذي تريدون بذله لمكنتي كما قال سليمان عليه السلام ‏{‏فما آتانيَ الله خير مما آتاكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏فأعينوني بقوة‏}‏ أي آلات وعمال أتقوى بها في فعل ذلك، فإن أهل البلاد أخبر بما يصلح في هذا العمل من بلادهم وما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه، لا لمثل هذا ‏{‏أجعل بينكم‏}‏ أي بين ما تختصون به ‏{‏وبينهم ردماً *‏}‏ أي حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض، مع التلاصق المتلاحم الموجب لأن لا يميز بعضه من بعض وهو أعظم من السد؛ قال البغوي‏:‏ فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض‏.‏ ‏{‏ءاتوني‏}‏ بفتح الهمزة بعدها ساكنة، ومدها على قراءة أي أعطوني وبهمزة وصل، وهمزة بعدها ساكنة أي جيئوني وتعالوا إليّ فقد أجبتكم إلى سؤالكم، ثم ابتدأ مغرياً على هذه القراءة فقال‏:‏ ‏{‏زبر الحديد‏}‏ أي عليكم به فأحضروا إليّ قطعة، فأتوه بذلك فردم ما فوق الأساس بعضه على بعض صفاً من الحديد وصفاً من الحطب، قال البغوي‏:‏ فلم يزل يجعل قطع الحديد على الحطب والحطب على الحديد‏.‏ ‏{‏حتى إذا ساوى‏}‏ أي بذلك البناء ‏{‏بين الصدفين‏}‏ أي أعلى منقطع الجبلين الموصوفين، سميا لتصادفهما- أي تقابلهما وتقاربهما- بالبناء على تلك الحالة عرضاً وطولاً، وقراءة من فتح الصاد والدال- وهم نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم- دالة على أن تقابلهما في غاية الاستقامة، فكأنهما جدار فتح فيه باب، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر بضمهما دالة على أنه مع ذلك في غاية القوة حتى أن أعلاه وأسفله سواء، وقراءة شعبة عن عاصم بالضم وإسكان الدال على أشد ثبات وأتقنه في كل منهما، فلا ينتخر شيء منهما على طول الزمان بريح ولا غيرها من فساد في أحد الجانبين برخاوة من سياخ أو غيره ‏{‏قال‏}‏ أي للصناع‏:‏ ‏{‏انفخوا‏}‏ في الأكوار فنفخوا فأضرم فيه النار، واستمر كذلك ‏{‏حتى إذا جعله‏}‏ أي كله ‏{‏ناراً قال‏}‏ للقوم‏:‏ ‏{‏ءاتوني‏}‏ بالنحاس ‏{‏أفرغ عليه‏}‏ أي الحديد المحمى ‏{‏قطراً *‏}‏ منه بعد إذابته، فإن القطر‏:‏ النحاس الذائب، هذا في قراءة حمزة وأبي بكر عن عاصم بإسكان الهمزة، وقراءة الباقين بفتح الهمزة ومدها بمعنى أعطوني النحاس‏.‏

ففعلوا ذلك فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمله وأحكمه ما ‏{‏اسطاعوا‏}‏ أي يأجوج ومأجوج وغيرهم ‏{‏أن يظهروه‏}‏ أي يعلو ظهره لعلوه وملاسته ‏{‏وما استطاعوا له نقباً *‏}‏ لثخنه وصلابته، وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل، وقد حكى ابن خرداذبه عن سلام الترجمان الذي أرسله أمير المؤمنين الواثق إليه حتى رآه أن ارتفاعه مد البصر، ولأنهم لو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنه لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهوره، ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «إن يأجوج ومأجوج ليحفرن السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس»- الحديث‏.‏ وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم» وروياه عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه‏:‏ «مثل هذا وعقد تسعين» فكأنه قيل‏:‏ فما قال حين أفرغه‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال هذا‏}‏ أي السد ‏{‏رحمة من ربي‏}‏ المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع الفساد به ‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏}‏ بقرب قيام الساعة ‏{‏جعله دكاء‏}‏ بإقدراهم على نقبه وهدمه وتسهيل ذلك عليهم، والتعبير بالمصدر المنون في قراءة الجماعة للمبالغة في دكه هو الذي أشارت إليه قراءة الكوفيين بالمد ممنوعاً من الصرف‏.‏

ولما كان هذا أمراً مستعظماً خارقاً للعادة، علله بقوله‏:‏ ‏{‏وكان وعد ربي‏}‏ الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج واختراقهم الأرض وإفسادهم لها ثم قيام الساعة ‏{‏حقاً *‏}‏ كائناً لا محالة، فلذلك أعان على هدمه، وعن قتادة قال‏:‏ «ذكر لنا أن رجلاً- وفي رواية‏:‏ عن رجل من أهل المدينة قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال انعته لي، قال‏:‏ كالبرد المحبر‏:‏ طريقة سوداء وطريقة حمراء، وفي وراية‏:‏ طريقة حمراء من حديد وطريقة سوداء من نحاس، وفي رواية أنه قال‏:‏ انتهيت إلى أرض ليس لهم إلا الحديد يعملونه»- رواه الطبري وابن أبي عمر والطبراني في مسند الشاميين وابن مردويه عنه والبزار من وجه آخر من طريق أبي بكرة رضي الله عنه- ذكر ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف، وفي حديث فتح الباب من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن حبيش- وكان أمير تلك الجيوش التي بها عبد الرحمن بن ربيعة في أيام عمر رضي الله عنه- ما نصه‏:‏ وحدث مطر بن ثلج التميمي قال‏:‏ دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده- يعني‏:‏ وكان ملك الباب من جهة آل كسرى فأقبل رجل عليه شحوبة حتى جلس إلى شهربراز فتساءلا، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن‏:‏ أيها الأمير‏!‏ أتدري من أين جاء هذا الرجل‏؟‏ إني بعثته منذ سنين نحو السد لينظر لي ما حاله ومن دونه، وزودته مالاً عظيماً، وكتبت له إلى من يليني وأهديت له وسألته أن يكتب إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بيني وبينه حتى انتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فذكر أنه أحسن إلى البازيار، قال‏:‏ فتشكر لي البازيار فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف فقال لي البازيار‏:‏ على رسلك‏!‏ أكافيك أنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله تعالى بأفضل ما عنده من الدنيا فيرمي به في هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء وانقضت عليها العقاب وقال‏:‏ إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تفع فذلك شيء، فخرجت علينا باللحم في مخالبها وإذا فيه ياقوتة فأعطانيها، وهي هذه، فتناولها منه شهربراز وهي حمراء فناولها عبد الرحمن فنظر إليها ثم ردها إليه فقال شهربراز‏:‏ هذه خير من هذه البلدة- يعني الباب- وايم الله‏!‏ لأنتم أحب إليّ ملكة من آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وايم الله‏!‏ لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر، فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال‏:‏ ما حال الردم وما شبهه‏؟‏ فقال‏:‏ هذا الثوب الذي على هذا الرجل، وأشار إلى مطر بن ثلج وكان عليه قباء برود يمنية أرضه حمراء ووشيه أسود، أو وشيه أحمر وأرضه سوداء، فقال مطر‏:‏ صدق والله الرجل‏!‏ لقد نفذ ورأى، قال عبد الرحمن‏:‏ أجل‏!‏ ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ ‏{‏آتوني زبر الحديد‏}‏ إلى آخر الآية، وقال عبد الرحمن لشهربراز‏:‏ كم كانت هديتك‏؟‏ قال‏:‏ قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان- انتهى‏.‏

وقد ظهر أن ما تعنتوا به من قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وما أدرج بينهما تبكيتاً لليهود الآمرين بذلك- دال من قصة موسى عليه السلام على قيام الساعة فصار كله أعظم ملزم لهم إن قبلوه، وأوضح فاضح لعنادهم إن تركوه‏.‏

ولما انقضى ما سألوا عنه على أحسن وجه في أبلغ سياق وأبدع تناسب، وأدرج في خلاله ما أدرج من التذكير والوعظ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والتبكيت للكاتمين لما عندهم من العلم، الناكبين عما استبان لهم من الطريق اللاحب والمنهج الواضح صنع القادر الحكيم الذي لا يستخفه ضجر فيستعجل، ولا يعيبه أمر فيستمهل، وختمه بما هو علم عظيم للساعة، ذكر ما يكون إذإ ذاك وما يكون بعده إلى حصول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره؛ ولما كان ذلك أمراً عظيماً، دل عليه بالنون فقال عاطفاً على تقديره‏:‏ فقد بان أمر ذي القرنين أي بيان، وصدق في قوله ‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏}‏ فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاء فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال‏:‏ ‏{‏وتركنا بعضهم‏}‏ أي بعض من خلف السد ومن أمامه ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ جعلنا السد دكاء وخرجوا مقدمتهم بالشام وساقطتهم بخراسان، وهم- كما قال الله تعالى- ‏{‏من كل حدب ينسلون‏}‏‏.‏ ‏{‏يموج‏}‏ أي يضطرب ‏{‏في بعض‏}‏ كما يموج البحر، فأهلكوا ما مروا عليه من شيء إلا ما أراد الله، ثم أبادهم الذي خلقهم وبقرب ذلك أفنى الخلائق أجمعين ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏ أي النفخة الثانية لقوله‏:‏ ‏{‏فجمعناهم‏}‏ ويجوز أن تكون هذه الفاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى، أو ونفخ في الصور فمات الخلائق كلهم، فبليت أجسامهم، وتفتتت عظامهم، كما كان من تقدمهم، ثم نفخ فيه النفخة الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه، وتفرقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك ‏{‏جمعاً‏}‏ فأقمناهم دفعة واحدة كلمح البصر، وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم العقاب أو الثواب ‏{‏وعرضنا‏}‏ أي أظهرنا ‏{‏جهنم يومئذ‏}‏ أي إذ جمعناهم لذلك ‏{‏للكافرين عرضاً *‏}‏ ظاهراً لهم كل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون عنها مصرفاً؛ ثم وصفهم بما أوجب سجنهم فيها وتجهمها لهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين كانت‏}‏ كوناً كأنه جبلة لهم ‏{‏أعينهم‏}‏ الوجهية والقلبية ‏{‏في غطاء عن ذكري‏}‏ بعدم النظر فيما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه إثر إحيائه وإعادته بعد إبدائه ‏{‏وكانوا‏}‏ بما جبلناهم عليه ‏{‏لا يستطيعون‏}‏ أي استطاعة عظيمة تسعدهم، لضعف عقولهم، وغرق استبصارهم في فضولهم ‏{‏سمعاً *‏}‏ لآياتي التي تسمع الصم وتبصر الكمه، وهو أبلغ في التبكيت بالغباوة والتقريع بالبلادة من مجرد نفي البصر والسمع، لأن ذلك لا ينفي الاستطاعة؛ ثم عطف على ما أفهمه ذلك قوله موبخاً لهم ومبكتاً‏:‏ ‏{‏أفحسب‏}‏ أي أغطوا أعينهم عن آياتي وأصموا أسماعهم عن كلماتي، وعبدوا عبادي فحسبوا لضعف عقولهم، وإنما قال‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ دلالة على الوصف الذي أوجب لهم ذلك ‏{‏أن يتخذوا‏}‏ أي ولو بذلوا الجهد ‏{‏عبادي‏}‏ من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح، والأموات كالأصنام‏.‏

ولما كان كل شيء دونه سبحانه، وكان لا يستغرق شيء من الأشياء جميع ما دون رتبته من المراتب، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من دوني أولياء‏}‏ أي مبتدئين اتخاذهم من دون إذني، والمفعول الثاني ل ‏{‏حسب‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ ينصرونهم ويدفعون عنهم ويجعلون بعضهم ولداً ولا أعذبهم‏.‏ ولما كانت غاية اتخاذ الولي أن يفعل ما يفعل القريب من النصر والحماية من كل مؤذ، جاز كون هذا ساداً مسد مفعولي ‏{‏حسب‏}‏ لأن معناه‏:‏ أحسبوا اتخاذهم مانعهم مني‏؟‏ ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل أصلد زندهم، وخاب جدهم، وغاب سعدهم، حسن جداً قوله مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏إنا اعتدنا جهنم‏}‏ التي تقدم أنا عرضناها لهم ‏{‏للكافرين نزلاً *‏}‏ نقدمها لهم أول قدومهم كما يعجل للضيف، فلا يقدر أحد على منعها عنهم، ولهم وراءها ما يحتقر بالنسبة إليه كما هو شأن ما بعد النزل بالنسبة إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 110‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

ولما تبين بذلك الذي لا مرية فيه أنهم خسروا خسارة لا ربح معها، وخاب ما كانوا يؤملون، أمره أن ينبههم على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم‏}‏ أي نخبركم أنا وكل عبد لله ليست عينه في غطاء عن الذكر، ولا في سمعه عجز عن الوعي، إخباراً عظيماً أيها التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه، والمقبلون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره ‏{‏بالأخسرين‏}‏ ولما كانت أعمالهم مختلفة، فمنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد النجوم، ومنهم من يعبد بعض الأنبياء، ومنهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يكفر بغير ذلك، جمع المميز فقال‏:‏ ‏{‏أعمالاً *‏}‏ ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال‏:‏ ‏{‏الذين ضل سعيهم‏}‏ أي حاد عن القصد فبطل ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس ‏{‏يحسبون‏}‏ لضعف عقولهم ‏{‏أنهم يحسنون صنعاً *‏}‏ أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به؛ وروى البخاري في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الأخسرين اليهود والنصارى، قال‏:‏ أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا‏:‏ لا طعام فيها ولا شرب- انتهى‏.‏ قلت‏:‏ وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني‏.‏

ولما كانوا ينكرون أنهم على ذلك، لملازمتهم لكثير من محاسن الأعمال، البعيدة عن الضلال، بين لهم السبب في بطلان سعيهم بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي أوقعوا الستر والتغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر، مستهينين ‏{‏بأيات ربهم‏}‏ من كلامه وأفعاله، وبين سبب هذا الكفر بقوله‏:‏ ‏{‏ولقائه‏}‏ أي فصاروا لا يخافون فلا يردهم شيء عن أهوائهم ‏{‏فحبطت‏}‏ أي سقطت وبطلت وفسدت بسبب جحدهم للدلائل ‏{‏أعمالهم‏}‏ لعدم بنائها على أساس الإيمان ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن سقوطها أنا لا ‏{‏نقيم لهم‏}‏ ما لنا من الكبرياء والعظمة المانعين من اعتراض أحد علينا أو شفاعته بغير إذننا لدينا ‏{‏يوم القيامة وزناً *‏}‏ أي لا نعتبرهم لكونهم جهلوا أمرنا الذي لا شيء أظهر منه، وآمنوا مكرنا ولا شيء أخطر منه‏.‏

ولما كان هذا السياق في الدلالة على أن لهم جهنم أوضح من الشمس قال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي بيناه من وعيدهم ‏{‏جزاؤهم‏}‏ لكن لما كان حاكماً بضلالهم وغباوتهم، بين الجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ وصرح بالسببية بقوله‏:‏ ‏{‏بما كفروا‏}‏ أي وقعوا التغطية للدلائل ‏{‏واتخذوا ءاياتي‏}‏ التي هي مع إنارتها أجد الجد وأبعد شيء عن الهزل ‏{‏ورسلي‏}‏ المؤيدين بباهر أفعالي مع ما لهم من الشهامة والفضل ‏{‏هزواً *‏}‏ فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزء الذي هو أعظم احتقار‏.‏

ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين ءامنوا‏}‏ أي باشروا الإيمان ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ من الخصال ‏{‏كانت لهم‏}‏ لبناء أعمالهم على الأساس ‏{‏جنات‏}‏ أي بساتين ‏{‏الفردوس‏}‏ أي أعلى الجنة، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه، وستر من يدخله بكثرة أشجاره ‏{‏نزلاً *‏}‏ كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً، يعد لهم حين الدخول ‏{‏خالدين فيها‏}‏ بعد دخولهم ‏{‏لا يبغون‏}‏ أي يريدون أدنى إرادة ‏{‏عنها حولاً *‏}‏ أي تحولاً لأنه مزيد عليها، دفعاً لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة، بل هم في غاية الرضى بها، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء، لا يشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه، وهو تعريض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار ‏{‏ربنا أخرجنا منها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 107‏]‏ وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها، ومحبتهم في طول البقاء فيها، وعزوف المؤمنين عنها، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها‏.‏

ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللاً بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ بأنهم أوتوا التوراة، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول، وكان ربما قال قائل‏:‏ ما له لا يزيد ذلك شرحاً‏؟‏ قال تعالى آمراً بالجواب عن ذلك كله، معلماً لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته، وآخر استفصال شيء من مقدوراته، قطعاً لهم عن السؤال، وتقريباً إلى أفهامهم بضرب من المثال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أشرف الخلق لهم‏:‏ ‏{‏لو كان البحر‏}‏ أي ماؤه على عظمته عندكم ‏{‏مداداً‏}‏ وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر ‏{‏لكلمات‏}‏ أي لكتب كلمات ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك ‏{‏لنفد‏}‏ أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له ‏{‏البحر‏}‏ لأنه جسم متناه‏.‏

ولما كانت المخلوقات- لكونها ممكنة- ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالاً، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال‏:‏ ‏{‏قبل أن تنفد‏}‏ أي تفنى وتفرغ ‏{‏كلمات ربي‏}‏ لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال‏:‏ ‏{‏ولو جئنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا ‏{‏بمثله مدداً *‏}‏ أي له يكتب منه لنفد أيضاً، وهذا كله كناية عن عدم النفاد، لأنه تعليق على محال عادة كقولهم‏:‏ لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل، ونحو هذا، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف، وعبر بالقبل دون أن يقال «ولم تنفد» ونحوه، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح باباً من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيداً بذلك، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على ‏{‏الغني الحميد‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 26‏]‏ ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما ههنا، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر «على لاحب لا يهتدى بمناره» من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته، ولا لشيء من صفاته، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال- والله أعلم‏.‏

ولما كانوا ربما قالوا‏:‏ ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك‏؟‏ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً، وجوزوا كون الإله حجراً، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم، وهي الروح آخر سبحان، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم، ويفضح شبههم، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا‏}‏ أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب ‏{‏بشر مثلكم‏}‏ أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي ‏{‏يوحى إليّ‏}‏ أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده ‏{‏أنما إلهكم‏}‏ وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إله واحد‏}‏ أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها، قادر على ما يريد، لا منازع له، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه- هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين، وبالمباشرة حق اليقين، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه ‏{‏فمن‏}‏ أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ‏{‏كان يرجوا‏}‏ أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها، وإنما قال‏:‏ ‏{‏لقاء ربه‏}‏ تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه‏.‏

ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده، فقال‏:‏ ‏{‏فليعمل‏}‏ وأكده للإعلام بأنه لا بد مع التصديق من الإقرار فقال‏:‏ ‏{‏عملاً‏}‏ أي ولو كان قليلاً ‏{‏صالحاً‏}‏ وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه ‏{‏ولا يشرك‏}‏ أي وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ‏{‏بعبادة ربه أحداً *‏}‏ فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم، في الطريق الأقوم، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره، والإحسان في العمل، مع البشارة لمن آمن، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر، فبان بذلك أن لله تعالى- بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات- الكمال، فصح أنه المستحق لجميع الحمد- والله الموفق، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور‏.‏

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه السورة تالية للسورة الواصفة للكتاب- الذي به نعمة الإبقاء الأول- بالاستقامة البالغة، افتتحها بالأحرف المقطعة، كما افتتح السورة التي تلي أم الكتاب، الداعيةَ إلى الصراط المستقيم، الواصفةَ الكتابَ بالهدى الضامن للاستقامة، والتي تلي واصفته، والتي تلي الأنعام المشيرة إلى نعمة الإيجاد الأول، فقال‏:‏ ‏{‏كهيعص *‏}‏ وهي خمسة أحرف على عددها مع تلك السور، وهي جامعة النعم، وواصفة الكتاب، وذات النعمة الأولى، وذات النعمة الثانية، كما افتتحت الأعراف التالية لذات النعمة الأولى بأربعة على عددها مع قبلها من الأم الجامعة والواصفة وذات النعمة الأولى، وكما افتتحت آل عمران التالية للواصفة بثلاثة على عددها مع الأم والواصفة ‏{‏ذكر‏}‏ أي هذا الذي أتلوه عليكم ذكر ‏{‏رحمت ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالتأييد بكشف الغوامض وإظهار الخبء ‏{‏عبده‏}‏ منصوب برحمة، لأنها مصدر بني على التاء، لا أنها دالة على الوحدة ‏{‏زكريا *‏}‏ أي ابن ماثان، جزاء له على توحيده وعمله الصالح الذي حمله عليه الرجاء للقاء ربه، والرحمة منه سبحانه المعونة والإجابة والإيصال إلى المراد ونحو ذلك من ثمرات الرحمة المتصف بها العباد ‏{‏إذ نادى‏}‏ ظرف الرحمة ‏{‏ربه‏}‏‏.‏

ولما قدم تشريفه بالذكر والرحمة والاختصاص بالإضافة إليه فدل ذلك على كمال القرب، قال‏:‏ ‏{‏نداء خفياً *‏}‏ أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السر الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة، فأطلع سبحانه عليه لأنه يعلم السر وأخفى، فكأنه قيل‏:‏ كما ذلك الندا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال رب‏}‏ بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب ‏{‏إني وهن‏}‏ أي ضعف جداً ‏{‏العظم مني‏}‏ أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره‏!‏ ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها ‏{‏واشتعل الرأس‏}‏ أي شعره مني ‏{‏شيباً ولم أكن‏}‏ فيما مضى قط مع صغر السن ‏{‏بدعائك‏}‏ أي بدعائي إياك ‏{‏رب شقياً *‏}‏ فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء شكر واستعطاف؛ ثم عطف على «إني وهن» قوله‏:‏ ‏{‏وإني خفت الموالي‏}‏ أي فعل الأقارب أن يسيئوا الخلافة ‏{‏من وراءي‏}‏ أي في بعض الزمان الذي بعد موتي ‏{‏وكانت امرأتي عاقراً‏}‏ لا تلد أصلاً- بما دل عليه فعل الكون ‏{‏فهب لي‏}‏ أي فتسبب- عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة، وخوفي من سوء خلافة أقاربي، ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي، وبلوغي من الكبر حداً لاحراك بي معه- إني أقول لك يا قادراً على كل شيء‏:‏ هب لي ‏{‏من لدنك‏}‏ أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك، لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات، لا من جهة سبب أعرفه، فإن أسباب ذلك عندي معدومة‏.‏

وقد تقدم في آل عمران لذلك مزيد بيان ‏{‏ولياً *‏}‏ أي من صلبي بدلالة ‏{‏ذرية‏}‏ في السورة الأخرى ‏{‏يرثني‏}‏ في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوة والعمل ‏{‏ويرث‏}‏ زيادة على ذلك ‏{‏من ءال يعقوب‏}‏ جدنا مما خصصتهم به من المنح، وفضلتهم به من النعم، من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم، وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليهما الصلاة والسلام ‏{‏ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 6‏]‏ ولأن إسرائيل صار علماً على الأسباط كلهم، وكانت قد غلبت عليهم الأحداث؛ وقد استشكل القاضي العضد في «الفوائد الغياثية» كونَ ‏{‏يرث‏}‏ على قراءة الرفع صفة بأنه يلزم عليه عدم إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام لأن يحيى عليه السلام قتل في حياته، ولا يكون وارثاً إلا إذا تخلف بعده، وقد قال تعالى ‏{‏فاستجبنا له ووهبنا له يحيى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏ قال‏:‏ فتجعل استئنافية، ولا يلزم حينئذ إلا خلف ظنه عليه السلام- هكذا نقل لي عنه، وأنا أجلّه عن ذلك، لأنه لا يلزم تخلف دعائه ولا يتجرأ على عليّ مقامه بإخلاف ظنه، لأن الإخبار عن قتله قبله إن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح السند، كان تسمية العلم الذي أخذه عنه في حياته إرثاً مجازاً مرسلاً باعتبار ما يؤول إليه في الجملة، لا سيما مع جواز أن يكون يحيى عليه السلام علَّمه لمن عاش بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العلم إرثاً على وجه الاستعارة التبعية بقوله عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء» ولا شك أن من ضرورة تعلم العلم حياة المأخوذ عنه، ولم يرد منع من تسميته إرثاً حال الأخذ، هذا إذا صح أن يحيى عليه السلام مات قبل زكريا عليه السلام، وحينئذ يؤول ‏{‏من وراءي‏}‏ بما غاب عنه، أي عجزت عن تتبع أفعال الموالي بنفسي في حال الكبر، وخفت سوء فعلهم إذا خرجوا من عندي وغابوا عني، فهب لي ولداً يكون متصفاً بصفاتي، فكان ما سأله، وإن لم يصح موته قبله بالطريق المذكور لم يصح أصلاً، وينتفي الاعتراض رأساً، فإن التواريخ القديمة إنما هي عن اليهود فهي لا شيء، مع أن البغوي نقل في أول تفسير سورة بني إسرائيل ما يقتضي موت زكريا قبل يحيى عليهما الصلاة والسلام، فإنه قال‏:‏ آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود عليه السلام فمات زكريا عليه السلام، وقيل‏:‏ قتل، فلما رفع الله عيسى عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى بيوزردان صاحب الفيل فقال‏:‏ إني كنت قد حلفت بإلهي‏:‏ لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد أحداً أقتله، فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، وأن بيوزردان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فقال‏:‏ يا بني إسرائيل‏!‏ ما شأن هذا الدم يغلي‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا، فقال‏:‏ ما صدقتموني، قالوا‏:‏ لو كان تأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والوحي فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم بيوزردان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى بيوزردان أن الدم لا يهدأ قال لهم‏:‏ يا بني إسرائيل‏!‏ ويلكم‏!‏ أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته، فلما رأوا الجد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا‏:‏ إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله عز وجل، فلو أطعناه فيها لكان أرشد منا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه، فقال لهم بيوزردان‏:‏ ما كان اسمه‏؟‏ قالوا‏:‏ يحيى بن زكريا، قال‏:‏ الآن صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى بيوزردان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله‏:‏ أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل، ثم قال‏:‏ يا يحيى بن زكريا‏!‏ قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحداً، فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيوزردان عنهم القتل وقال‏:‏ آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره، وقال لبني إسرائيل‏:‏ إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له‏:‏ افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره أرسل بيوزردان أن ارفع عنهم القتل، ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد‏.‏

فهذا كما ترى ظاهر في أن يحيى تخلف بعد أبيه عليهما الصلاة والسلام وكذا ما تقدم في آل عمران عن الإنجيل في قصة ولادته‏.‏

ولما ختم دعاءه بقوله‏:‏ ‏{‏واجعله رب‏}‏ أي أيها المحسن إلي ‏{‏رضياً *‏}‏ أي بعين الرضا منك دائماً حتى يلقاك على ذلك، قيل في جواب من كأنه قال‏:‏ ماذا قال له ربه الذي أحسن الظن به‏؟‏‏:‏ ‏{‏يا زكريا إنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏نبشرك‏}‏ إجابة لدعائك؛ وقراءة الجماعة غير حمزة بالتشديد أوفق من قراءة حمزة للتأكيد الذي جيء به، لأن المبشر به لغرابته جدير بالإنكار ‏{‏بغلام اسمه يحيى‏}‏ ثم وصفه بما عرف به أن مما شرفه به أن ادخر له هذا الاسم فقال‏:‏ ‏{‏لم نجعل له‏}‏ فيما مضى، ولعله أتى بالجار الدال على التبعيض تخصيصاً لزمان بني إسرائيل قومه فقال‏:‏ ‏{‏من قبل سمياً *‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ما قال في جواب هذه البشارة العظمى‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها، والتلذيذ بترديدها، وهل ذلك من امرأته أو غيرها‏؟‏ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل ‏{‏رب‏}‏ أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً ‏{‏أنّى‏}‏ أي من أين وكيف وعلى أيّ حال ‏{‏يكون لي غلام‏}‏ يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة ‏{‏وكانت‏}‏ أي والحال أنه كانت ‏{‏امرأتي‏}‏ كانت شابة ‏{‏عاقراً‏}‏ غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيبن فكيف بها وقد أسنت‏!‏ ‏{‏وقد بلغت‏}‏ أنا ‏{‏من الكبر عتياً‏}‏ أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام؛ قال البغوي في آل عمران‏:‏ وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة؛ وقال الرازي في اللوامع‏:‏ إن هذا على الاستخبار أيعطيه الله الولد بتلك الحال أم يقلبه شاباً‏؟‏ ولله تعالى في كل صنع تدبيران‏:‏ أحدهما المعروف الذي يسلكه الناس من توجيه الأسباب إلى المسببات، والآخر يتعلق بالقدرة المحضة، ولا يعرفه إلا أهل الاستبصار- انتهى‏.‏ ‏{‏قال كذلك‏}‏ أي الأمر؛ ثم علله بقوله‏:‏ ‏{‏قال ربك‏}‏ أي الذي عودك بالإحسان، وذكر مقول القول فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي خلق يحيى منكما على هذه الحالة ‏{‏عليَّ‏}‏ أي خاصة ‏{‏هين‏}‏ لا فرق عندي بينه وبين غيره ‏{‏وقد خلقتك‏}‏ أي قدرتك وصورتك وأوجدتك‏.‏

ولما كان القصد تشبيه حاله بالإتيان منه بولد على ضعف السبب بتقديره من النطفة على ضعف سبيتها لكونها تارة تثمر وتارة لا، وهو الأغلب، أتى بالجار إشارة إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل هذا الزمان ‏{‏ولم‏}‏ أي والحال أنك لم‏:‏ ولما كان عليه السلام شديد التشوف لما يلقى عليه من المعنى في هذه البشرى، أوجز له حتى بحذف النون وليثبت أنه ليس له من ذاته إلا العدم المحض، وينفي أن يكون له من ذاته وجود ولو على أقل درجات الكون لاقتضاء حاله في هذا التعجب لتذكيره في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏تك شيئاً *‏}‏ أي يعتد به، ثم أبرزتك على ما أنت عليه حين أردت، فتحقق بهذا أنه من امرأته هذه العاقر في حال كونهما شيخين، ثم قيل جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ما قال بعد علمه بذلك‏؟‏‏:‏ ‏{‏قال رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ بالتقريب‏!‏ ‏{‏اجعل لي‏}‏ على ذلك ‏{‏ءاية‏}‏ أي علامة تدلني على وقوعه ‏{‏قال‏}‏ أي الله‏:‏ ‏{‏ءايتك‏}‏ على وقوع ذلك ‏{‏ألا تلكم الناس‏}‏ أي لا تقدر على كلامهم‏.‏

ولما بدئت السورة بالرحمة، وكان الليل محل تنزلها «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول»- الحديث، قال‏:‏ ‏{‏ثلاث ليال‏}‏ أي بأيامها- كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك ‏{‏سوياً *‏}‏ من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتاً عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره ‏{‏فخرج‏}‏ عقب إعلام الله له بهذا ‏{‏على قومه‏}‏ أي عالياً على العلية منهم ‏{‏من المحراب‏}‏ الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ أي أشار بشفتيه من غير نطق‏:‏ قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران‏:‏ والرمز‏:‏ الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، والأول أغلب؛ قال‏:‏ وأصله الحركة‏.‏ وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال‏:‏ وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز‏.‏ ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد- انتهى‏.‏ وهو ظاهر أيضاً في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق ‏{‏أن سبحوا‏}‏ أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها ‏{‏بكرة وعشياً *‏}‏ فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولداً فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا‏:‏ ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏بقوة‏}‏‏.‏

ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله‏:‏ ‏{‏وءاتيناه‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏الحكم‏}‏ أي النبوة والفهم للتوراة ‏{‏صبياً *‏}‏ لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له‏.‏ وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له ‏{‏و‏}‏ آتيناه ‏{‏حناناً‏}‏ أي رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة ‏{‏من لدنا‏}‏ من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة ‏{‏وزكاة‏}‏ أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله ‏{‏وكان‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏تقياً *‏}‏ حوافاً لله تعالى ‏{‏وبراً‏}‏ أي واسع الأخلاق محسناً ‏{‏بوالديه ولم يكن‏}‏ جبلة وطبعاً ‏{‏جباراً‏}‏ عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله‏:‏ ‏{‏عصياً *‏}‏ إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 9‏]‏ فكان مطيعاً لله قائماً بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي، فهنيئاً له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره ‏{‏وسلام‏}‏ أي أيّ سلام ‏{‏عليه‏}‏ منا ‏{‏يوم ولد‏}‏ من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين ‏{‏ويوم يموت‏}‏ من كرب الموت وما بعده، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏ويوم يبعث‏}‏ من كل ما يخاف بعد ذلك ‏{‏حياً *‏}‏ حياة هي الحياة للانتفاع بها، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضياً، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، وأهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال‏:‏ ذكره مثل هذه القذاة»

قال الهيثمي‏:‏ وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أيضاً عن عبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم، لكن ليس فيه ذكر الذكر، ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء- فذكره حتى قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ينبغي أن يكون أحد خيراً من يحيى بن زكريا، قلنا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ وكيف ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن‏؟‏ ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏حياً‏}‏، مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم» ورواه أيضاً البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور- وقد وثق، وبقية رجاله ثقات‏.‏ وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولداً من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي، وتارة بسبب ضعيف، وتارة بلا سبب، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام، قدمها في الذكر، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ اذكر هذا لهم‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏- بلفظ الأمر ‏{‏في الكتاب مريم‏}‏ ابنة عمران خالة يحيى- كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء‏:‏ «فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من ‏{‏مريم‏}‏ بدل اشتمال قوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي اذكر ما اتفق لها حين ‏{‏انتبذت‏}‏ أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت ‏{‏من أهلها‏}‏ حالة ‏{‏مكاناً شرقياً *‏}‏ عن مكانهم، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي ‏{‏فاتخذت‏}‏ أي أخذت بقصد وتكلف، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من دونهم‏}‏ أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره ‏{‏حجاباً‏}‏ يسترها ‏{‏فأرسلنا‏}‏ لأمر يدل على عظمتنا ‏{‏إليها روحنا‏}‏ جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، لئلا يشتبه عليها الأمر، ويتشعب بها الفكر، فتقتل نفسها غماً ‏{‏فتمثل لها‏}‏ أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني ‏{‏بشراً سوياً *‏}‏ في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏‏.‏

ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت‏:‏ ‏{‏إني أعوذ بالرحمن‏}‏ ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة ‏{‏منك‏}‏ ولما تفرست فيه- بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها- التقوى، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها‏:‏ ‏{‏إن كنت تقياً * قال‏}‏ جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه‏:‏ إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، ‏{‏إنما أنا رسول ربك‏}‏ أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده ‏{‏لأهب‏}‏ بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى ‏{‏لك‏}‏ وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله‏:‏ ‏{‏غلاماً‏}‏ أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ‏{‏زكياً *‏}‏ طاهراً من كل ما يدنس البشر‏:‏ نامياً على الخير والبركة ‏{‏قالت‏}‏ مريم‏:‏ ‏{‏أنّى‏}‏ أي من أين وكيف ‏{‏يكون لي غلام‏}‏ ألده ‏{‏ولم يمسسني بشر‏}‏ بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها‏.‏

ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من «كان» ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ‏{‏ولم أك‏}‏‏.‏ ولما كان المولود سر من يلده، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت‏:‏ ‏{‏بغياً *‏}‏ أي ليكون دأبي الفجور، ولم يأت «بغية» لغلبة إيقاعه على النساء، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية، لا يقال إلا للمتلبسة به ‏{‏قال‏}‏ أي جبريل عليه السلام ‏{‏كذلك‏}‏ القول الذي قلت لك يكون‏.‏

ولما كان لسان الحال قائلاً‏:‏ كيف يكون بغير سبب‏؟‏ أجاب بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏ربك هو‏}‏ أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة ‏{‏عليّ‏}‏ أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري ‏{‏هين‏}‏ أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك‏.‏

ولما كان ذلك أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق‏:‏ ‏{‏ولنجعله‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏ءاية للناس‏}‏ أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ‏{‏ورحمة منا‏}‏ لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال ‏{‏وكان‏}‏ ذلك كله ‏{‏أمراً مقضياً *‏}‏ أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة‏:‏ فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها ‏{‏فحملته‏}‏ وعقب بالحمل قوله‏:‏ ‏{‏فانتبذت به‏}‏ أي فاعتزلت- وهو في بطنها- حالة ‏{‏مكاناً قصياً *‏}‏ أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله‏:‏ ‏{‏فأجاءها‏}‏ أي فأتى بها وألجأها ‏{‏المخاض‏}‏ وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ‏{‏إلى جذع النخلة‏}‏ وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته‏!‏ فكيف إذا كانت يابسة‏!‏ مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك‏.‏

ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل‏:‏ يا ليت شعري‏!‏ ما كان حالها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏ لما حصل عندها من خوف العار‏:‏ ‏{‏ياليتني مت‏}‏ ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار‏:‏ ‏{‏قبل هذا‏}‏ أي الأمر العظيم ‏{‏وكنت نسياً‏}‏ أي شيئاً من شأنه أن ينسى ‏{‏منسياً *‏}‏ أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال، فولدته ‏{‏فناداها من تحتها‏}‏ وهو عيسى عليه السلام ‏{‏ألا تحزني‏}‏ قال الرازي في اللوامع‏:‏ والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة- انتهى‏.‏ ونقله ابن كثير وقال‏:‏ غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم أنكروا عليها زمن الحمل، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة‏.‏

ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت‏:‏ لم لا أحزن‏؟‏ وتوقعت ما يعلل به‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏قد جعل ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏تحتك‏}‏ في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها ‏{‏سرياً *‏}‏ جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك ‏{‏وهزي إليك‏}‏ أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك‏.‏

ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت‏:‏ ما أهز‏؟‏ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه، فقال مصرحاً بالمهزوز‏:‏ ‏{‏بجذع النخلة‏}‏ التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت‏:‏ ولم ذاك؛ فقال‏:‏ ‏{‏تساقط عليك‏}‏ من أعلاها ‏{‏رطباً جنياً *‏}‏ طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن، وتدل على البراءة، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 33‏]‏

‏{‏فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فكلي‏}‏ أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب ‏{‏واشربي‏}‏ من ماء السرى ‏{‏وقري‏}‏ أي استقري ‏{‏عيناً‏}‏ بالنوم، فإن المهموم لا ينام، والعين لا تستقر ما دامت يقظى، وعن الأصمعي أن المعنى‏:‏ ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة، واشتقاق «قري» من القرور، وهو الماء البارد- انتهى‏.‏

وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه‏:‏ وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون‏:‏ قررت به عيناً- أي بكسر العين- أقر، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون‏:‏ قررت به عيناً- أي بالفتح- أقر، قال- يعني الفراء‏:‏ فمن قال‏:‏ قررت- أي بالكسر- قراً، وقرى عيناً- أي بالفتح، وهي القراءة المعروفة، ومن قال‏:‏ قررت،- أي بالفتح قراً وقري عيناً- بكسر القاف أي وهي الشاذة، قال- أي القزاز‏:‏ هي لغة كل من لقيت من أهل نجد، والمصدر قرة وقرور‏.‏

وسيأتي في القصص ما ينفع هنا، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه، قيل‏:‏ ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام ‏{‏فإما ترين‏}‏ أي يا مريم ‏{‏من البشر أحداً‏}‏ لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك ‏{‏فقولي‏}‏ لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه‏:‏ ‏{‏إني نذرت للرحمن‏}‏ أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق ‏{‏صوماً‏}‏ أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام ‏{‏فلن‏}‏ أي فتسبب عن النذر أني لن ‏{‏أكلم اليوم إنسياً *‏}‏ فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر، قالوا‏:‏ ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد ‏{‏فأتت‏}‏ أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت ‏{‏به‏}‏ أي بعيسى ‏{‏قومها‏}‏ وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه ‏{‏تحمله‏}‏ غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل‏:‏ فما قالوا لها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا يا مريم‏}‏ ما هذا‏؟‏ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم ‏{‏لقد جئت‏}‏ بما نراه ‏{‏شيئاً فرياً *‏}‏ قطيعاً منكراً ‏{‏ياأخت هارون‏}‏ في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام ‏{‏ما كان أبوك‏}‏ أي عمران ساعة من الدهر ‏{‏امرأ سوء‏}‏ لنقول‏:‏ نزعك عرق منه ‏{‏وما كانت أمك‏}‏ في وقت من الأوقات ‏{‏بغياً *‏}‏ أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها ‏{‏فأشارت‏}‏ امتثالاً لما أمرت به ‏{‏إليه‏}‏ أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها ‏{‏قالوا كيف نكلم‏}‏ يا مريم ‏{‏من كان في المهد‏}‏ أي قبيل إشارتك ‏{‏صبياً *‏}‏ لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب «كان» يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب ‏{‏صبياً‏}‏ على الحال، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال‏:‏ ‏{‏إني عبد الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى ‏{‏ءاتاني الكتاب‏}‏ أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني ‏{‏وجعلني‏}‏ أي في علمه ‏{‏نبياً *‏}‏ ينبئ بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك‏:‏ فانبئكم به ‏{‏وجعلني مباركاً‏}‏ بأنواع البركات ‏{‏أين ما‏}‏ في أي مكان ‏{‏كنت‏}‏ فيه‏.‏

ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول‏:‏ ‏{‏وأوصاني بالصلاة‏}‏ له طهرة للنفس ‏{‏والزكاة‏}‏ طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري ‏{‏ما دمت حياً‏}‏ ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله ‏{‏وبراً‏}‏ أي وجعلني براً، أي واسع الخلق طاهره‏.‏

ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال‏:‏ ‏{‏بوالدتي‏}‏ أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها ‏{‏ولم يجعلني جباراً شقياً *‏}‏ بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال‏:‏ ‏{‏والسلام‏}‏ أي جنسه ‏{‏عليَّ‏}‏ فلا يقدر أحد على ضرري ‏{‏يوم ولدت‏}‏ فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً ‏{‏ويوم أموت‏}‏ كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان ‏{‏ويوم أبعث حياً *‏}‏ يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان في ذلك من أقوال عيسى وأحواله- المنادية بالحاجة للتنقل في أطوار غيره من البشر والكرامة من الله- أعظم البيان عن بعده عما ادعى فيه النصارى من الإلهية واليهود من أنه لغير رشده، نبه على ذلك مشيراً إليه بأداة البعد فقال مبتدئاً‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الولد العظيم الشأن، العلي الرتبة، الذي هذه أحواله وأقواله البعيدة عن صفة الإله وصفة من ارتاب في أمره؛ ثم بين اسم الإشارة أو أخبر فقال‏:‏ ‏{‏عيسى ابن مريم‏}‏ أي وحدها ليس لغيرها فيه بنوة أصلاً، وهي من أولاد آدم، فهو كذلك؛ ثم عظم هذا البيان تعظيماً آخر فقال‏:‏ ‏{‏قول‏}‏ أي هو- أي نسبته إلى مريم فقط- قول ‏{‏الحق‏}‏ أي الذي يطابقه الواقع، أو يكون القول عيسى نفسه كما أطلق عليه في غير هذا الموضع «كلمة» من تسمية المسبب باسم السبب وهو على هذه القراءة خبر بعد خبر أو بدل أو خبر مبتدأ محذوف، وعلى قراءة عاصم وابن عامر بالنصب، هو اغراء، أي الزموا ذلك وهو نسبته إلى مريم عليهما السلام وحدها ثم عجب من ضلالهم فيه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي فيه يمترون *‏}‏ أي يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلونه به مع أن أمره في غاية الوضوح، ليس موضعاً للشك أصلاً؛ ثم دل على كونه حقاً في كونه ابن مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضل‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أي ما صح ولا تأتي ولا تصور في العقول ولا يصح ولا يتأتى لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة ‏{‏لله‏}‏ الغني عن كل شيء ‏{‏إن يتخذ‏}‏ ولما كان المقام يقتضي النفي العام، أكده ب «من» فقال‏:‏ ‏{‏من ولد‏}‏‏.‏

ولما كان اتخاذ الولد من النقائص، أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن كل نقص من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إذا قضى أمراً‏}‏ أي أمر كان ‏{‏فإنما يقول له كن‏}‏ أي يريده ويعلق قدرته به ‏{‏فيكون *‏}‏ من غير حاجة إلى شيء أصلاً، فكيف ينسب إلى الاحتياج إلى الإحبال والإيلاد والتربية شيئاً فشيئاً كما أشار إليه الاتخاذ‏.‏

ولما كان لسان الحال ناطقاً عن عيسى عليه الصلاة والسلام بأن يقول‏:‏ وقد قضاني الله فكنت كما أراد، فأنا عبد الله ورسوله فاعتقدوا ذلك ولا تعتقدوا سواه من الأباطيل، عطف عليه في قراءة الحرميين وأبي عمرو قوله‏:‏ ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏ربي وربكم‏}‏ أي أحسن إلى كل منا بالخلق والرزق، لا فرق بيننا في أصل ذلك ‏{‏فاعبدوه‏}‏ وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده، وقراءة الباقين بالكسر على أنه مقول عيسى عليه السلام الماضي، ويكون اعتراض ما تقدم من كلام الله بينهما للتأكيد والاهتمام‏.‏

ولما كان اشتراك الخلائق في عبادة الخالق بعمل القلب والجوارح علماً وعملاً أعدل الأشياء، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي أمرتكم به ‏{‏صراط مستقيم *‏}‏ لأنا بذلنا الحق لأهله بالاعتقاد الحق والعمل الصالح، ولم يتفضل أحد منا فيه على صاحبه‏.‏

ولما كان المنهج القويم بحيث يكون سبباً للاجتماع عند كل صحيح المزاج، عجب منهم في استثمار غير ذلك منه فقال‏:‏ ‏{‏فاختلف‏}‏ أي فتسبب عن هذا السبب للاجتماع أنه اختلف ‏{‏الأحزاب‏}‏ الكثيرون‏.‏ ولما كان الاختلاف لم يعم جميع المسائل التي في شرعهم قال‏:‏ ‏{‏من بينهم‏}‏ أي بني إسرائيل المخاطبين بذلك خاصة لم تكن فيهم فرقة من غيرهم في هذه المقالة القويمة التي لا تنبغي لمن له أدنى مسكة أن يتوقف في قبولها، فمنهم من أعلم أنها الحق فاتبعها ولم يحد عن صوابها، ومنهم من أبعد في الضلال عنها بشبه لا شيء أو هي منها؛ روي عن قتادة أنه اجتمع من أحبار بني إسرائيل أربعة‏:‏ يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل، فقال يعقوب‏:‏ عيسى هو الله نزل إلى الأرض فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية، وقال نسطور‏:‏ عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه النسطورية، وقال ملكاً‏:‏ عيسى أحد ثلاثة‏:‏ الله إله، ومريم إله، وعيسى إله، فكذبه الرابع واتبعه طائفة، وقال إسرائيل‏:‏ عيسى عبد الله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فاتبعه فريق من بني إسرائيل، ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع- ذكر معناه أبو حيان وابن كثير ورواه عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ‏{‏فويل‏}‏ أي فتسبب عن اختلافهم أنا نقول‏:‏ ويل ‏{‏للذين كفروا‏}‏ منهم ومن غيرهم ‏{‏من مشهد يوم عظيم *‏}‏ في جمعه لجميع الخلائق، وما فيه من الأهوال والقوارع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك المشهد عظيم الجمع، شديد الزحام مستوي الأرض، بعيد الأرجاء، كان حاله مقتضياً لئلا يطلعوا على غير ما يليهم من أهواله، فقال في جواب من يقول‏:‏ وما عسى أن يسمعوا أو يبصروا فيه، معلماً بأن حالهم في شدة السمع والبصر جديرة بأن يعجب منها‏:‏ ‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ أي ما أشد سمعهم وما أنفذ بصرهم‏!‏ ‏{‏يوم يأتوننا‏}‏ سامعين لكل أهواله، مبصرين لسائر أحواله، فيطلعون بذلك على جميع ما أدى عمله في الدنيا إلى ضرهم في ذلك اليوم، وجميع ما كان ينفعهم لو عملوه، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم، ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ونحوه ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك، بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم، فيكونون بسلوك ذلك- وهم يعلمون ضرره عمياً وبكماً وصمّاً، لأنهم لا ينتفعون بمداركهم كما كانوا في الدنيا كذلك، لكنهم- هكذا كان الأصل، وإنما أظهر فقال‏:‏ ‏{‏لكن الظالمون‏}‏ تنبيهاً على الوصف الذي أحلهم ذلك المحل ‏{‏اليوم في ضلال مبين *‏}‏ لا يسمعون ولا يبصرون‏.‏

ولما كان هذا الذي تقدم إنذاراً بذلك المشهد، كان التقدير‏:‏ أنذر قومك ذلك المشهد وما يسمعونه فيه ويبصرونه ‏{‏وأنذرهم يوم الحسرة‏}‏ نفسه في ذلك المشهد العظيم، يوم تزل القدم، ولا ينفع الندم، للمسيء على إساءته، وللمحسن على عدم ازدياده من الإحسان‏.‏

ولما كان ‏{‏يوم‏}‏ مفعولاً، لا ظرفاً، أبدل منه، أو علل الإنذار فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين، أو لأنه، وعبر عن المستقبل بالماضي، إيذاناً بأنه أمر حتم لا بد منه فقال‏:‏ ‏{‏قضي الأمر‏}‏ أي أمره وفرغ منه بأيسر شأن وأهون أمر، وقطعنا أنه لا بد من كونه ‏{‏وهم‏}‏ حال من ‏{‏أنذرهم‏}‏ أي والحال أنهم الآن ‏{‏في غفلة‏}‏ عما قضينا أن يكون في ذلك الوقت من أمره، لا شعور لهم بشيء منه، بل يظنون أن الدهر هكذا حياة وموت بلا آخر ‏{‏وهم لا يؤمنون *‏}‏ بأنه لا بد من كونه؛ وفي الصحيح ما يدل على أن يوم الحسرة حين يذبح الموت فقد روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال‏:‏ يا أهل الجنة‏!‏ هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون‏:‏ نعم‏!‏ هذا الموت، ويقال‏:‏ يا أهل النار‏!‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيشرئبون وينظرون ويقولون‏:‏ نعم‏!‏ هذا الموت، فيؤمر به فيذبح، ثم يقال‏:‏ يا أهل الجنة‏!‏ خلود فلا موت، ويا أهل النار‏!‏ خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي وراية‏:‏ فذلك قوله ‏{‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر‏}‏» «الآية‏.‏

وأما الغفلة ففي الدنيا، روى ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏إذ قضي الأمر وهم في غفلة‏}‏ قال في الدنيا‏.‏ قال المنذري‏:‏ وهو في مسلم بمعناه في آخر حديث‏.‏

ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله، وكان سبحانه قد قضى بموت الخلائق أجمعين، وأنه يبقى وحده، عبر عن ذلك بالإرث مقرراً به مضمون الكلام السابق، فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم‏:‏ إن الدهر لا يزال هكذا، حياة لقوم وموت لآخرين ‏{‏إنا نحن‏}‏ بعظمتنا التي اقتضت ذلك ولا بد، وأفاد الأصبهاني أن تأكيد اسم ‏{‏إن‏}‏ أفاد أن الإسناد إليه سبحانه لا إلى أحد من جنده ‏{‏نرث الأرض‏}‏ فلا ندع بها عامراً من عاقل ولا غيره‏.‏ ولما كان العاقل أقوى من غيره، صرح به بعد دخوله فقال‏:‏ ‏{‏ومن عليها‏}‏ أي من العقلاء، بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ‏{‏وإلينا‏}‏ لا إلى غيرنا من الدنيا وجبابرتها إلى غير ذلك ‏{‏يرجعون *‏}‏ معنى في الدنيا وحساً بعد الموت‏.‏

ولما ذم الضالين في أمر المسيح، وعلق تهديدهم بوصف دخل فيه مشركو العرب، فأنذرهم بصريح تكذيبهم بالبعث، وغيرهم بأنهم لسوء أعمالهم كالمكذبين به، وختم ذلك بأنه الوارث وأن الرجوع إليه، ودخل في ذلك الإرث بغلبة أنبيائه وأتباعهم على أكثر أهل الأرض برجوع أهل الأديان الباطلة إليهم حتى يعم ذلك جميع أهل الأرض في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان إبراهيم عليه السلام لكثرة أولاده من العرب والروم وأهل الكتابين وراثاً لأكثر الأرض، وكان مثل زكريا في هبة الولد على كبر سنه وعقم زوجه، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ أي يا محمد‏!‏ ‏{‏في الكتاب‏}‏ أي الذي أنزل عليك وتبلغه للناس وتعلمهم أن هذه القصة من القرآن ‏{‏إبراهيم‏}‏ أعظم آبائكم الذي نهى أباه عن الشرك يا من يكفرون تقليداً للآباء‏!‏ ثم علل تشريفه بذكره له على سبيل التأكيد المعنوي بالاعتراض بين البدل والمبدل منه، واللفظي ب «إن» بقوله منبهاً على أن مخالفتهم له بالشرك والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك تكذيب بأوصافه الحسنة‏:‏ ‏{‏إنه كان‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏صديقاً‏}‏ أي بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله، والتصديق بكل ما يأتيه مما هو أهل لأن يصدق لأنه مجبول على ذلك ولا يكون كذلك إلا وهو عامل به حق العمل فهو أبلغ من المخلص ‏{‏نبياً *‏}‏ أي يخبره الله بالأخبار العظيمة جداً التي يرتفع بها في الدارين وهو أعظم الأنبياء بعد محمد- على جميعهم أفضل الصلاة والسلام كما رواه الحافظ أبو البزار بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه وأكده وكذا أكد فيما بعده من الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا مقرين بنبواتهم تنزيلاً لهم منزلة المنكر، لجريهم في إنكارهم نبوة البشر على غير مقتضى عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 50‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليقتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله، فقال مبدلاً من ‏{‏إبراهيم‏}‏ ‏{‏إذ قال‏}‏ أي اذكر وقت قوله ‏{‏لأبيه‏}‏ هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله‏:‏ ‏{‏يا أبت‏}‏‏.‏

ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمره، نبهه على عقم فعله بقوله‏:‏ ‏{‏لم تعبد‏}‏ مريداً بالاستفهام المجاملة، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله‏:‏ ‏{‏ما لا يسمع ولا يبصر‏}‏ أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً‏.‏ ولما كان الأعمى الأصم قد ينفع بكلام أو غيره، قال‏:‏ ‏{‏ولا يغني عنك شيئاً *‏}‏ من الإغناء‏.‏

ولما نبهه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة، بل لا تجوز عبادته، لنقصه مطلقاً ثم نقصه عن عابده، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة، نبهه على أنه أهل للهداية، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود‏:‏ ‏{‏ياأبت‏}‏ وأكد علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال‏:‏ ‏{‏إني قد جاءني‏}‏ من المعبود الحق ‏{‏من العلم ما لم يأتك‏}‏ منه ‏{‏فاتبعني‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لك وجوباً على النهي عن المنكر ونصيحة لما لك علي من الحق‏:‏ اجتهد في تبعي ‏{‏أهدك صراطاً سوياً *‏}‏ لا عوج فيه، كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أن أمامنا مهالك لا ينجو منها أحد، وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك، لأطعتني، لو عصيتني فيه عدك كل أحد غاوياً‏.‏

ولما بين أنه لا نفع فيما يعبده، ونبهه على الوصف المقتضي لوجوب الاقتداء به، بين له ما في عبادة معبوده من الضر فقال‏:‏ ‏{‏يا أبت لا تعبد الشيطان‏}‏ فإن الأصنام ليس لها دعوة أصلاً، والله تعالى قد حرم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل ولي له، فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان، فكان هو المعبود بعبادتها في الحقيقة؛ ثم علل هذا النهي فقال‏:‏ ‏{‏إن الشيطان‏}‏ البعيد من كل خير المحترق باللعنة، وذكر الوصف الموجب للإملاء للعاصي فقال‏:‏ ‏{‏كان للرحمن‏}‏ المنعم بجميع النعم القادر على سلبها، ولم يقل‏:‏ للجبار- لئلا يتوهم أنه ما أملى لعاصيه مع جبروته إلا للعجز عنه ‏{‏عصياً *‏}‏ بالقوة من حين خلق، وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم فأبى فهو عدو لله وله، والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء، لأن صديق العدو عدو‏.‏

فلما بين له أنه بذلك عاص للمنعم، خوفه من إزالته لنعمته فقال‏:‏ ‏{‏يا أبت إني أخاف‏}‏ لمحبتي لك وغيرتي عليك ‏{‏أن يمسك عذاب‏}‏ أي عذاب كائن ‏{‏من الرحمن‏}‏ أي الذي هو ولي كل من يتولاه لعصيانك إياه ‏{‏فتكون‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن تكون ‏{‏للشيطان‏}‏ وحده وهو عدوك المعروف العداوة ‏{‏ولياً *‏}‏ فلا يكون لك نصرة أصلاً، مع ما يوصف به من السخافة باتباع العدو الدني، واجتناب الولي العلي‏.‏

فلما وصل إلى هذا الحد من البيان، كان كأنه قيل‏:‏ ماذا كان جوابه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مقابلاً لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل، منكراً عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته‏:‏ ‏{‏أراغب‏}‏ قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال‏:‏ ‏{‏أنت‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏عن ءالهتي‏}‏ بإضافتها إلى نفسه فقط، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء‏:‏ تركه عمداً‏.‏ ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال‏:‏ ‏{‏يا إبراهيم‏}‏ ثم استأنف قوله مقسماً‏:‏ ‏{‏لئن لم تنته‏}‏ عما أنت عليه ‏{‏لأرجمنك‏}‏ أي لأقتلنك، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته ‏{‏واهجرني‏}‏ أي ابعد عني ‏{‏ملياً‏}‏ أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى، ويقاسي من قومه من العناء، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا- بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً ‏{‏قال‏}‏ أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم‏:‏ ‏{‏سلام عليك‏}‏ أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏سأستغفر‏}‏ بوعد لا خلف فيه ‏{‏لك ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله‏:‏ ‏{‏إني أخاف أن يمسك‏}‏‏.‏

ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال‏:‏ ‏{‏إنه كان بي‏}‏ أي في جميع أحوالي ‏{‏حفيّاً *‏}‏ أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال‏:‏ ‏{‏وأعتزلكم‏}‏ أي جميعاً بترك بلادكم؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله‏:‏ ‏{‏وما تدعون‏}‏ أي تعبدون ‏{‏من دون الله‏}‏ الذي له الكمال كله، فمن أقبل عليه وحده أصاب، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ‏{‏وأدعوا‏}‏ أي أعبد ‏{‏ربي‏}‏ وحده لاستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه‏:‏ ‏{‏عسى ألاّ أكون‏}‏ أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء ‏{‏بدعاء ربي‏}‏ المتفرد بالإحسان إلي ‏{‏شقياً *‏}‏ كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم‏.‏

ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله‏:‏

وما غربة الإنسان في شقة النوى *** ولكنها والله في عدم الشكل

وإني غريب بين بست وأهلها *** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

وحقق ما عزم عليه؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال‏:‏ ‏{‏فلما اعتزلهم‏}‏ أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة ‏{‏وما يعبدون‏}‏ أي على الاستمرار ‏{‏من دون الله‏}‏ الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره ‏{‏وهبنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏له‏}‏ كما هو الشأن في كل كن ترك شيئاً لله ‏{‏إسحاق‏}‏ ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله ‏{‏ويعقوب‏}‏ ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأخروه بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال‏:‏ ‏{‏وكلاًّ‏}‏ أي منهما ‏{‏جعلنا نبياً *‏}‏ عالي المقدار، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً ‏{‏ووهبنا لهم‏}‏ كلهم ‏{‏من رحمتنا‏}‏ أي شيئاً عظيماً جداً، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة ‏{‏وجعلنا لهم‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏لسان صدق عليّاً‏}‏ أي ذكراً صادقاً رفيع القدر جداً يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار، ومر الليل والنهار، وعبر باللسان عما يوجد به، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانياً بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولاً، وأشار إليها بقوله في ‏{‏سبحان‏}‏ ‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏